شهدت العاصمة التركية أنقرة تظاهرة ثقافية مبهرة تفاعل معها الزوار والنقاد على حد سواء، وذلك خلال فعاليات “معرض مسابح الصلاة والفنون والتحف والأحجار الطبيعية”، الذي يُقام لأول مرة هذا العام في مركز جمعية غرف التجارة (ATO). الحدث الذي جمع عشاق الفنون الإسلامية، ومحبي المقتنيات التاريخية النادرة.
شكل فرصة ثمينة للزوار للغوص في عمق التراث العثماني والإسلامي من خلال عرض مقتنيات فريدة، أبرزها ساعة جيب نادرة تعود إلى السلطان عبد الحميد الثاني، ومسبحة إسلامية نُقشت عليها أسماء الله الحسنى وصُنعت من حجر العاج الثمين.
المعرض الذي افتُتح بحضور محافظ أنقرة واصب شاهين، وعدد من الفنانين والمهتمين بالفن الإسلامي، أثار دهشة الزوار وفضولهم أمام قطع فنية نادرة لا تقدر بثمن، وشكّل منصة مهمة لإحياء الذاكرة التاريخية وإبراز البراعة الحرفية العريقة التي تميزت بها الحضارة العثمانية.
ساعة السلطان عبد الحميد.. تحفة من الدقة والهيبة
أثارت ساعة الجيب التي استخدمها السلطان عبد الحميد الثاني اهتمامًا بالغًا بين الحاضرين، كونها قطعة تاريخية فريدة صممت خصيصًا لتعرض أوقات الصلوات الخمس بدقة مذهلة. هذه الساعة لم تكن مجرد أداة لمعرفة الوقت، بل كانت أيضًا تجسيدًا لحساسية السلطان تجاه الدين والتقوى، وحرصه على الالتزام بأوقات الصلاة حتى أثناء انشغاله بأمور الحكم والدولة.
كهرمان أبايدين، منسق جناح الساعات في المعرض، قال في تصريحات للإعلام إن الساعة تعود إلى صانع الساعات الأرمني الشهير “ج. توليان”، الذي كان الصانع الشخصي للسلطان عبد الحميد. وأوضح أن هذه الساعة صُنعت على نحو استثنائي حيث يتكوّن ميناؤها من ثلاثة أقسام تعرض أوقات الصلوات الخمس، وهو إنجاز تقني نادر في عالم صناعة الساعات في ذلك الزمن.
وأضاف أبايدين أن حوالي 100 نسخة فقط من هذا الطراز تم تصنيعها خلال عهد السلطان، غير أن معظمها بيعت أو هُرّبت إلى خارج البلاد، ولم يتبقَّ منها داخل تركيا سوى ما بين 20 و25 ساعة، مما يزيد من قيمتها التاريخية والمادية. وأوضح أنه يعرض الساعة للبيع بسعر 4000 دولار، معتبرًا أنها أكثر من مجرد قطعة أثرية، بل جزء من الهوية الثقافية العثمانية.
مسبحة أسماء الله الحسنى.. مزيج من الفن والروح
وفي زاوية أخرى من المعرض، خطفت مسبحة نادرة الأضواء، صنعت يدوياً من قبل الفنان حميد غولدور، أحد أبرز فناني وزارة الثقافة التركية، والذي ينتمي لعائلة امتهنت صناعة المسابح منذ ثلاثة أجيال.
المسبحة، التي صُنعت من العاج الأسود المعروف بـ”حجر أولتو”، تضم 33 خرزة نُقش على كل واحدة منها ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى، ليبلغ المجموع 99 اسماً. وقد تزيّنت خرزاتها بالذهب الخالص، بما في ذلك زخرفة مصغّرة للكعبة المشرفة في منتصف السلسلة، ما جعل منها عملاً فنياً متكاملاً يلامس القلوب قبل العيون.
غولدور قال إن هذه المسبحة ليست مجرد أداة للذكر، بل تمثل تجسيداً روحياً وفنياً عميقاً يعكس الإيمان والتقاليد الإسلامية، مضيفًا: “قيمتها المالية ربما تُقدّر بنحو 25 ألف دولار، لكنها بالنسبة لي تساوي مليون دولار من حيث الروح والمعنى. لن أبيعها إلا لمن يُقدّر قيمتها الحقيقية ويحافظ عليها كأمانة”.
وأكد الفنان التركي أن هذا العمل الفني يمثل ذروة مسيرته الحرفية، وقال بفخر: “لقد تحقق حلمي بهذه المسبحة، وأشعر أنني أضفت شيئاً حقيقياً إلى تراثنا الفني والروحي”.
حضور ثقافي وروحاني واسع
المعرض، الذي يستمر حتى 3 أغسطس، لا يقتصر على عرض التحف، بل يشكل مساحة ثقافية وروحية للزوار للتفاعل مع الفنون الإسلامية في أبهى صورها. ويضم المعرض أيضاً مسابح مصنوعة من مواد نادرة كالعنبر والعاج وحجر الكهرمان، بالإضافة إلى قطع فنية مزخرفة بخطوط عربية وزخارف عثمانية، كما أقيمت على هامشه ورش تعريفية حول صناعة المسابح وفن النقش اليدوي، مما أضفى طابعًا تعليميًا وتفاعليًا على الفعالية.
وتنوّعت جنسيات الزوار بين أتراك وعرب وأجانب، حيث أعرب العديد منهم عن انبهارهم بما شاهدوه من مقتنيات ثمينة وأعمال فنية دقيقة تعكس الإرث الثقافي الإسلامي، لا سيما تلك التي ترتبط بفترات مهمة من التاريخ العثماني، والتي لا تزال تُلهِم الحرفيين والفنانين حتى اليوم.
تحف تعكس الهوية وتجذب الأجيال الجديدة
أهمية هذا المعرض من كونه لا يركّز فقط على عرض التحف النادرة، بل يسعى أيضًا إلى الحفاظ على الحرف التقليدية، وإحياء صلة الأجيال الجديدة بالتراث الثقافي والديني. فقد أظهرت الإحصاءات الأولية أن شريحة كبيرة من الزوار هم من الشباب الذين وجدوا في هذه المعروضات فرصة لفهم تاريخهم وثقافتهم من منظور جديد.
ويقول منظّمو المعرض إن الهدف الأساسي هو خلق وعي مجتمعي بأهمية الحفاظ على التراث المادي والروحي في ظل تسارع العولمة والتقنيات الحديثة، مؤكدين أنهم يخططون لتنظيم هذا الحدث سنويًا وجعله منصة دولية تجمع الفنانين والحرفيين من مختلف الدول الإسلامية.
تتجاوز ساعة السلطان عبد الحميد ومسبحة أسماء الله الحسنى قيمتهما المادية، لتصبحا رمزين عميقين للهوية والتاريخ والروحانية الإسلامية. فقد استطاع المعرض أن يخلق جسراً بين الماضي والحاضر، بين الجمال والتقوى، وبين الفن والإيمان، في لوحة متكاملة أعادت للأذهان أمجاد فنية وحضارية تعود لقرون طويلة.
وبينما تستمر فعاليات المعرض في قلب أنقرة، تُفتح نوافذ جديدة للذاكرة والروح، تدعو الجميع إلى تأمل المعنى الحقيقي للتراث، وتقدير التفاصيل الدقيقة التي حوّلت أدوات بسيطة كساعة أو مسبحة إلى قطع لا تُقدَّر بثمن.